هذه قصتي.. من ماليزيا إلى الجزائر في زمن الكورونا (7)

0

 

مرت الليلة الأخيرة لا أدري أكنت فيها المودِّع أم المُودَّع! لكن كانت لا تشبه كل الليالي التي مرت من قبل على الأقل منذ عيد الفطر لما كثرت لقاءاتنا وتعددت سهراتنا، قبل أن ننام اتفقت أنا و “رفيق” على الاستيقاظ على العاشرة صباحا لأرافقه إلى بيته لإحضار الغداء الأخير الذي تكرم به وتعنّت زوجته في تحضيره لوداع المغادرين إلى الديار ولمؤازرة الباقين في الدار، قلت له “نعم ساذهب معك فإن اتصلوا بنا من السفارة ليخبرونا بسفري فسأعرج على الأسواق لشراء الهدايا وإلا فسأستمتع بالجولة معك وأروّح عن نفسي..”.

كنت كالطفل الذي وعده والده بالذهاب صباحا لشراء دراجة أو للذهاب لحديقة الملاهي، أو كالطالب الذي يستعد لدخول الباكالوريا صبيحة الغد!!، استيقظت قبل المنبه فأعفيته من الصراخ ومنحته ساعات أخرى من النوم مع “صلوح” الذي وللأمانة استيقظ بعدي بقليل لأنه فضل مرافقتنا على التمدد في الأريكة حتى الظهر

بعد أن قمت مباشرة تذكرت وعدا أو نذرا كنت قد قطعته على نفسي منذ اسبوع تقريبا حينما كنا في شلال Chamang نخطط لعيد الأضحى، حيث أطلعنا “رفيق” على عزمه شراء كبش والتبرع بنصفه للطلبة الجزائريين وعرض علينا أن نتشارك في دفع ثمنه لمن أحب، فقلت في نفسي سأساهم بما أستطيع حتى لو كان 50 رينغت (حوالي 2500دج) ولكن أنساني الشيطان تسليم مساهمتي ل “رفيق” رغم كثرة لقاءاتي بعد تلك الرحلة!!!

تذكرت ذلك الوعد صبيحة الجمعة فأخرجت ما بقي في خزينتي من مال وسحبت دون تردد ورقتين من فئة 50 رينغت وسلمتها “خفية” له وهو في حالة “سكر” بسبب قلة النوم والسهر المتواصل لعدة ليالي متتالية، فهمست في أذنه أن هذا المبلغ هو مساهمتي في شراء كبش العيد، ثم عدت لما بقي بين يدي من رينغات مباركات أعُدُّها فحشرت قسما منها في محفظتي والباقي أعدته إلى ظرف الويسترن يونيون الذي كان يعاني من التخمة قبل أيام حتى حان موعد دفع إشتراك إيجار الشقة وبعض المصاريف فتنفس بطن الظرف بعد ذلك الإسهال الذي أصابه.

اتصال من السفارة الجزائرية

لم تمض دقيقتين على الأكثر من تسليمي لتبرعي ل “رفيق” وعدّي لما تبقى حتى رن هاتفي فظننته المنبه المشاكس الذي صار أحد ألد أعداء “صلوح” ههه، فسارعت لالتقاطه ولكن دهشت لما رأيت رقما ماليزيا +60…. يتصل !!! وأنا لم أعتد على استقبال مكالمات محلية إلا ما ندر فأغلب الاتصالات التي أتلقاها تكون عبر الواتساب فإن كانت مكالمة محلية فأغلب ارقام الأصدقاء مسجلة عندي، ترددت بشكل غير اعتيادي في الرد على المكالمة وجاءني شعور بأن هذا الاتصال وراءه شيء خطير ..

سحبت الأيقونة الخضراء إلى اليسار وقلت “ألو ياس؟!!” فجاءني صوت يقول من الجهة الأخرى:
“ألو السيد أحمد الوارث معايا” بلهجة جزائرية لذيذة
“إيه تفضل شكون معايا؟!!!” وكدت أقول له “من أعطاك رقمي” ولكني تربصت قليلا ..
“معاك السفارة الجزائرية نتاع ماليزيا، اليوم على الربعة العشية تكون ف المطار”
“أوكي !!!!”
“جيب معاك فوتوكوبي (نسخة) نتاع الباسبور و وحدة نتاع تذكرة العودة”
“أوكي آآآآآ شكرا !!”

لم أقدر أن أبلع ريقي نظرت صوب “رفيق” الذي كان يتفحص رسائل هاتفه بعين مغمضة وأخرى شبه مفتّحة، فهز رأسه متسائلا من المتصل وقد سمع جزءا من المحادثة ليس فيها من جهتي إلا كلمات قليلة أغلبها “أوكي” فكأني تلقيت حزمة من الأوامر من جهاز الشرطة ولم يكن بيدي إلا التسليم والاستجابة!!، قلت له اتصلوا بي من السفارة فانفرجت اساريره وتفتّحت عيناه حتى جحظتا قليلا، لم أكن مضطرا لأعطيه التفاصيل لأنه فهم الباقي

في المطبخ كان يقف “يحي” يغسل الاواني ويعد الفطور هذه المرة بدلا عني فترك ما بيده وأقبل علي مهنئا معانقا مهللا مستبشرا، كاد عناقه يقضي علي فهو من هو بسطة في العلم والجسم – رغم الكيلوغرامات العديدات التي فقدها خلال شهور حظر التجوال وبفضل التزام صارم منه بالتمارين الرياضية – وأنا من أنا جلد فوق عظم خسرت خلال نفس الفترة عشرة كيلوغرامات كنت قد ربحتها بشق النفس في السنة الماضية بعد استقراري في بلدتي بجوار أمي وحياتي اللتان تنافستا غير مرة في إعداد كل وجبة أتوحم بها .

بعد عناق “يحي” الذي لا يُشبع ويجد فيه المعانق رطابة ودفءا وحنانا يذهب الهموم ويؤجج الشجون… وقد يقود إلى الجنون . بعد هذا أقبل علي نسخته المصغرة “منير” الذي كانت ابتسامته الحلوة بخديه الممتلئين الورديين تعبر عما في نفسه من فرحة غامرة وهو الذي كان يجتهد في الدعاء لي سرا وعلانية بلسانه وقلبه وكل جوارحه، عانقته وكأني ألتقي بمن تبرع لي بإحدى كليتيه أو بمن منحني جواز الحج!!!، وبكل تأكيد فحضن “منير” لا يقل حنانا وحلاوة من سابقه .

توجهت لغرفة الشيخ “ياسين” لأبلغه البشارة فكاد يبكي من الفرحة وقال لي منذ الفجر وأنا أتقلب في فراشي وأتفحص كل نصف ساعة هاتفي خوفا من أن أتلقى اتصالا من السفارة فأغفل عن الرد عليه!. هذا ماقاله الشيخ ولكن ما لم يقله هو أن ” يقينه بالله صدق وحدسه لم يكن بعيدا عن الحقيقة”.

أين هو “صلوح” وكيف سيتلقى هذا الخبر؟! هل سيفرح أم سيحزن؟! كيف علي أن اخبره بما حصل وهو مطابق لما توقع وهو أن اتلقى تأكيد ذهابي على الساعة العاشرة والنصف او الحادية عشرة!!، في تلك الأثناء كان في الحمام يستعد للذهاب معنا أنا و “رفيق” وبمجرد أن خرج يفرك شعره ويتثاءب فأقبلت عليه وأنا لا أدري أأبشره أم أعزيه !!!، أمسكته بكلتا يدي في كتفيه وقلت له “تلقيت اتصالا من السفارة وقالوا لي باني سأذهب معهم…”

اختلطت على المسكين المشاعر ولم يدر أيعانقني فرحة أم حزنا .. لحظات عصيبة وصعبة علي مثلما كانت عليه، فهم كل منا شعور الآخر فلم نود احراج أنفسنا بالوقوف طويلا في تلك الهيئة وفضلنا أن ننشغل بالاستعداد للخروج والتحرك، ومهما حاولت وصف التناقضات التي عشتها أنا وأخي الصغير الحبوب “صلوح” بعد تلقي الخبر فلن أنقل لكم أي شيء فسبحان من يجمع القلوب ويصهر الأرواح معا ويوحد الأنفس حتى لا تطيق الفراق لدقائق فكيف بالأيام والشهور!!.

أسترجع الآن تلك اللحظات وأغالب دموعي لأني أكتب هذه العبارات وأنا في سيارة مع صديقين، ولأني والله شاهد على كلامي أحس بألم في قلبي الآن ، لذا سأقف هنا ولا أدري هل سأتمكن غدا من مواصلة الحديث عن بقية الأيام التي لا أرى فيها فائدة على كل حال!!، إلا إن أحببتم أن تواصلوا معي الرحلة وتركبوا معي طائرة الإجلاء إلى قسنطينة؟!

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This site is protected by wp-copyrightpro.com