هذه قصتي.. من ماليزيا إلى الجزائر في زمن الكورونا (10)

0

كان المطار شبه فارغ إلا من الجزائريين وبعض الآسيويين الذين وقفوا في طابور صغير أمام إحدى الشبابيك لم أتبين ما كتب على شاشته من بعيد، عشرات الكراسي فارغة والمطاعم والمحلات التجارية مغلقة بشريط لاصق خفيف وضع على عجل فيما يبدو، منظر المطار كئيب جدا وحركة العمال فيه بطيئة إلا عامل التنظيف في دورة المياه الذي كان يبتسم ويلقي التحية على كل واحد يدخل إليها، منظره وتصرفاته كانت غريبة جدا في الحقيقة وقد لاحظ ذلك من سبقني وجعلنا كجزائريين نتساءل ما سر سرور واستقبال ذلك الموظف لكل مار بدورة ألمياه بتلك الحفاوة وكأنه على باب فندق أو قاعة حفلات؟؟!!!.

جلست مع “صلوح” في آخر صف كراسي يطل على طابق سفلي ينزل إليه من قرر الذهاب للانتهاء من عملية وضع ختم الخروج لدى شرطة الحدود، غير بعيد عنا في تلك الكراسي كانت تجلس فتاتان يبدو أنهما تودعان بعضهما البعض ولكن بحركات وأسلوب الفتيات طبعا ، لم يطل بقاؤنا هناك حتى اتصل بي الأخ “يحي” ثم “منير” وأخيرا ابن أختي “وليد” الذي دعاني للعشاء الذي أحضره معه من البيت وأعده بنفسه وهو عبارة عن طبق “الكبسة” وهو أرز يمني، ولو لم يكن الشيخ “ياسين” منشغلا بالرد على رسائل الواتساب والفايبر لكان رابع متصل ، شكرت ابن أختي وقلت له سألتحق بهم وأتناول حصتي لاحقا ولكن كان الوقت قد داهمنا فعلا فقصدنا مكان جلوسهم لأتناول على عجل حصتي من “الكبسة” مستعملا يدي في حمل لقمة الأرز فلا ملاعق لدينا ما جعل الطبق ألذ وأشهى، تلك اللقيمات كانت كفيلة لتسد الجوع الذي لم أشعر به لانشغال عقلي بأمور أخرى أهم من هموم البطن!!، ثم جاءت لحظة الوداااااااع .

أول من ودعنا هو “محمد” شقيق “يحي” الذي كان نعم الرفيق والمدبِّر والمترجم والمُطعِم والسائق…، ثم ودون مقدمات تقدم “يحي” من “صلوح” ليعانقه بينما عانقت أنا “منير” مودعا ومستسمحا وداعيا له فأثره في خرجاتنا وجلساتنا جليّ فله النصيب الأوفر من التخطيط في نجاح تلك اللقاءات والرحلات بفضل حرصه وتفانيه في الإعداد والخدمة…

ثم جاء دور “صلوح” لأعانقه العناق الأخير وأسمع منه كلماته الأخيرة بصوته المبحوح المميز وأرى إلى عينيه البنيتين مباشرة لأرى فيهما حبا لم يستطع أو لم يعتد أن يبوح به لأحد من قبل..، كنت أغالب دموعي وأنا أمسك بيدي اليمنى قفى رأسه وأربت بيُسرايَ على ظهره وأتمتم بكلمات وداع لا أذكر شيئا منها، لما ابتعدت عنه لأنظر في عينيه وأطلب منه العفو عن أي زلة أو تجاوز مني في حقه – رغم إدراكي العميق أنها كلمات حفظناها لنقولها فقط لأنه ينبغي أن نقولها لأننا في تلك اللحظات لا نملك عبارات نودع بها أحبتنا لذا نستعمل عبارات وجمل حفظناها وتوارثناها كما هي – كان يهز رأسه ولا ينطق بأي كلمة فمثلما كنت غالبا المتحدث وهو المستمع فهو كذلك في هذا الموقف الذي يصير فيه الفصيح البليغ أبكما

حضنته للمرة الثانية والثالثة وفي كل مرة أشعر أن الألم يزيد ولا ينقص فقررت أن أضع يدي على كتفيه وأنظر إلى عينيه اللتان كانتا تتجنبان النظر إلي مباشرة لأنهما ستذرفان مثلما تذرف عيناي ورغم ذلك فعيناه كانتا تسبحان في بحر من الدموع لم يأذن “صلوح” لهما بالنزول!!؛ قلت له وأنا أشد على كتفيه “يعلم الله كم أحببتك رغم المدة القصيرة التي صاحبتك فيها، و كنتَ خير عوض لي في أيام صعبة مرت علي، أتمنى أن يبقى هذا الود بيننا وألا يطول فراقنا”.

“اعتني بنفسك كثيرا يا غالي…” هذه آخر كلماتي ل “صلوح” قبل أن يستدير بسرعة هو و “منير” – الذي تأثر هو الآخر لفراق حبيبه وأستاذه “يحي” – باتجاه بوابة الخروج حتى ينهي تلك الوقفة التي لا أعرف هل عاش مثلها من قبل أم لا ؟؟!!.

كنا تحدثنا سابقا في إحدى السهرات عن أصعب لحظات الوداع التي عشناها في أسفارنا الماضية فقصصت عليه قصة سفري في ديسمبر 2017 بعد ثلاثة أسابيع بالضبط من ميلاد ابني “أبو بكر الصديق” وغيابي عنه لأزيد من شهرين كنت فيها أتنقل بين مدن وقرى أوغندا وتنزانيا وكانت لحظات وداعي لأبي بكر وأمه من اشد لحظات الوداع التي مرت علي.

الوداع ليس من الأمور التي يألفها الإنسان أبدا مهما وطّن نفسه ودربها واحتال على نفسه، فالفراق ولو كان معلوما مدته لا يخفف الألم واللوعة لأن الفراق كالبتر إذا حل بعضو لم يعد بالإمكان رده لمكانه مهما فعلنا، ففي كل مرة نفارق حبيبا ورفيقا نبتر جزءا من فؤادنا ليبقى مع من فارقناه عسى يتسلى به ويتصبّر إلى حين اللقاء، وهيهات أن يعوض أي شيء وجه الحبيب الذي ملء لزمن ما حياتنا و ملك فيه فؤادنا بحسن عشرته وطيب خلقه ولين جانبه وتطابق روحه وروحنا.

هكذا افترقنا أنا و “صلوح” بعد شهرين بالضبط منذ أول لقاء بيننا والذي كان في رمضان على مائدة إفطار يوم 24 ماي، شهران متتابعان كانا كفيلان ليربطا بين قلبين ويصهر بين روحين ويؤلف بين نفسين شاءت ألطاف الله أن يكون تعارفنا في ماليزيا وليس قبل ذلك في الجزائر حيث التقينا من قبل وتناولنا غداء معا دون أن نتعارف – او على الأقل دون أن أعرفه أنا جيدا -، شهران كانا كسنتين في كثرة لقاءاتنا وجلساتنا وخرجاتنا وكأسبوعين في سرعة انقضائهما….

كنت قد مررت بتجارب كثيرة من صحبة الأخيار والودودين الطيبين في أسفار وبرامج طلابية ومخيمات وتربصات وتعلمت أن اللحظات الجميلة تمضي سريعا وقد لا تعود أبدا مع نفس الأشخاص، فتعاهدت مع نفسي ألا أفوّت أي فرصة لقضاء أكبر قدر من الوقت مع من أحب ولا أفارقه حتى يكون الفراق حتما مقدورا ولا مفر منه، وهذا ما رددته على مسامع “صلوح” طوال صحبتي له حتى ضجر من ذلك!، حسبي أني لم أعطله عن دراسة أو بحث أو عمل ولم أشغله عن أصدقاء ألِف الجلوس إليهم فقد كان أحد الشهرين عطلة ما بين سداسيين دراسيين والشهر الآخر كان يدرس فيه مادتين فقط وبمعدل ساعتين في اليوم، ما أتاح لنا فرصة اللقاء أكثر والتجول بعد رفع حالة الحظر الذي فرضته السلطات الماليزية لثلاثة أشهر.

رفعت حقيبة الظهر على ظهري وحملت الثانية التي امتلأت بالكتب بيساري وتكفل يميني بحمل هاتفي الذي سيكون وسيلة التواصل الوحيدة مع من ودعتهم قبل قليل “صلوح” “منير” “محمد” “رفيق” و غيرهم ممن لا يقلون أثرا فيّ ولعلي سأذكرهم حين أعود للحديث عن أيامي وشهوري الأولى في ماليزيا. لكن هل سيخفف الهاتف بما يحمله من وسائل تواصل تتيح مكالمة البعيد صوتا وصورة في أي لحظة ومن أي مكان (تقريبا) هل سيخفف عني وطأة فراق الأحبة؟! ربما سأتأكد بعد ساعات وأيام، لكن ما أنا متأكد منه أنه لن يعوض أبدا أنس اللقاء المباشر ولن يحل محل الاجتماع في ذات المكان والزمان حيث تتعانق الأنفاس وتتصافح الأيدي وتتزاحم الأجساد..

لم أنظر إلى الخلف مخافة أن أحن إلى من يهِمُّ بالخروج من المطار ركزت نظري على السلم الذي ينزل بنا إلى صالة أخرى و أسرعت لألحق بالشيخ “ياسين” والدي الذي تبناني منذ ساعات لأعبر معه صراط شرطة الحدود التي لا ندري لغاية اللحظة كيف ستتعامل معنا وتأشيرات دخولنا انتهت صلاحيتها منذ شهور!!

لم يكن الطابور طويلا وقد وجدنا بعضا من الجزائريين الذين فضلوا مثلنا قضاء ساعات الانتظار في صالات المطار العلوية، لم تسألني الشرطية أي شيء ولا أذكر هل كلفت نفسها عناء الرد على تحيتي أم لا على كل أنا ألقيتها عليها آليا من باب الاحترام واتباعا للايتيكيت الذي ينتشر في البلدان السياحية والمتطورة حيث يغلف النفاق باسم الايتيكيت أحيانا.

بعد ثواني من فحصها لجوازي أشارت لي بأن أتبعها إلى مكتب زجاجي يقع خلف صف الشبابيك الزجاجية الطويل الذي يستقبل في المرحلة الأولى كل المسافرين، تبعتها وفهمت من خلال مراقبتي لمن سبقني أن علي الانتظار هناك لتقوم لجنة من رجال الشرطة بفحص بياناتي والتأكد من أني لم أخالف قوانينهم ولست فارا من العدالة ومن ثم يختمون على جوازي وكأني لم أتأخر عن الخروج من بلدهم ودون تعريضي لغرامة أو وضعي في القائمة السوداء Black List ومنعي من الدخول لخمس سنوات مقبلة مثلما يفعلون مع “الحراقة” والمخالفين… انتظرنا لربع ساعة أنا والشيخ “ياسين” ثم التحق بنا “يحي” (شقيقي الجديد) ووالدته الفاضلة أي والدتي الماليزية المؤقتة.

كنا نحن من أواخر من عبر تلك المنطقة فكان السفير وبعض موظفي السفارة معنا في الحافلة التي أقلتنا من بهو تلك المنطقة إلى بوابة C35 Gate الركوب للطائرة وللأمانة فقد ظل السفير والقنصل وطاقم السفارة معنا إلى لحظة ركوبنا للطائرة، وصلنا لقاعة كبيرة على شكل ممر طويل على جانبيه كراسي امتلأت بالركاب المنتظرين، منهم من غلبه التعب فاتكأ على حقيبته أو مرافقه واستسلم للنوم وبعضهم التصق بمقبس الكهرباء يشحن هاتفه – رفيقه الوفي – ويواصل ماراثون استقبال وارسال الرسائل ومجموعات من الشباب تجلس على الأرض في حلقات تتحدث في كل شيء وعن أي شيء يجعل وقت الانتظار الممل يمر بسرعة!

إضافة إلى أطفال مل ذووهم من مراقبتهم وتحذيرهم من الابتعاد وهم متيقنون أن كاميرات المراقبة التي تحصي أنفاسنا ستتكفل بحماية أبنائهم من أي سوء قد يلحقهم، بحثت عن ابن أختي “وليد” الذي أصبح الشخص الذي علي الاهتمام به بعد أن فارقت أخي الصغير “صلوح” ولا أدري لما تذكرته في تلك الأثناء فقط واردت التأكد من وجوده في تلك الصالة!!، بعد جولة قصيرة في المكان وتعرفي على بعض رفاقي في الرحلة قررت أن أنزوي في جزء خفي من ذلك الممر الطويل الذي يشكل في نهايته قاعة تشبه الجزء الصغير من حرف L أين تطل الكراسي القليلة التي وضعت فيه على جانب آخر من المطار وتمتاز تلك المنطقة بانخفاض إضاءتها ما يمنح ذلك الجزء من القاعة ظلاما يساعد على الانزواء والتأمل والهروب قليلا من ضوضاء الجزائريين!!!!

اخترت كرسيا مقابلا للجدار الزجاجي الضخم المطل على رصيف فارغ إلا من طائرة للخطوط الآسيوية Air Asia رفعت رجلي على حافته البارزة من أسفل وتركت رأسي تتدلى إلى الخلف ويداي على صدري.. وكالعادة حين أختلي بنفسي أستذكر ما فات علي من أحداث حلوة ومرة وأحاول أن أعيشها مرة أخرى ولكن ببطء شديد يسمح لي باستخلاص العبرة منها ومحاولة فهم تسلسل الأحداث ورسم صورة شاملة لما عشته واستنباط حكمة كل موقف عشته..

استذكرت أيام انتظاري قرار لجنة الإجلاء…
استذكرت سعي رفاقي لضم اسمي لقائمة الإجلاء…
استذكرت كلمات زوجتي الغالية التي كانت تتراوح بين يأس وأمل ، عتاب ودعم …
استذكرت دعوات أمي الحبيبة التي لم تستوعب كثيرا ما كنت أحكيه لها عن الإجلاء…
استذكرت لحظات الوداع الأخير لمن أحببته حديثا فتعلقت به …

بكيت مطولا في ذلك الظلام الدامس دون أن أفهم سبب ذلك ولأي لحظة كان تأثري.. لكن دون شك فترقبي لرؤية أمي وزوجتي وابني بعد ساعات – ولو أنها ستطول بسبب الحجر الصحي الطويل – وكذلك لتأثري بفراق رفيقي الوفي “صلوح” ولمن معه هذان العاملان زادا من بكائي وحيرتي أأبكي حزنا على ما خلفته ورائي أم فرحا بما سيأتي ؟؟!!!!

كنت أفتح هاتفي فأعود لصور ابني الذي لم أره مباشرة ولم ألاعبه منذ ستة شهور تقريبا فيزداد ألمي، ثم أرجع لآخر صوري في ماليزيا فأجد “صلوح” يملأ الشاشة من جديد ويستحوذ على أغلب الذكريات… فقررت أن أغلق هاتفي لحين ركوب الطائرة وأطفئ الانترنت حتى لا أنشغل بمزيد الاتصالات والرسائل.

كنت لا أزال في خلوتي تلك أمسح دموعي حين اتصل بي “يحي” يبحث عني ويخبرني بأن موعد الدخول إلى القاعة الأخيرة قبل صعود الطائرة قد بدأ وعلي التقدم ليفحص الموظفون تذاكر الركوب boarding pass، ذهبت لدورة المياه لأستعد للرحلة التي سأضطر فيها لاستعمال دورات مياه الطائرة إن لم أفعل ذلك في المطار وغسلت وجهي وحاولت إخفاء آثار ما كنت عليه، تقدمنا نحن “عائلة الشيخ ياسين” مع العائلات التي نوديت لتكون الأولى فهذا هو عرف الجزائريين المعتاد أن تتقدم العائلات الطوابير وأظن أنه عرف المطارات كذلك . المهم وقفنا في صف غير منتظم رغم إلحاح الشرطة والمنظمين على المسافرين أن يتركوا مسافة متر بينهم وصل دوري لأضع حقائبي على الكاشف (السكانير) الذي كان بمثابة نفق تمر منه حقائبنا دون أن يعير الشرطي أي اهتمام لما تعرضه الشاشة أمامه من محتوياتها .

هاتفي كان يعاني هو الآخر من الجوع فقد استهلكت بطاريته في تنزيل أربعة حلقات من مسلسلنا الذي نصحني “صلوح” أن أستغل ساعات السفر الطويلة في مشاهدة ما أمكن من حلقاته الطويلة خاصة وأن احتمال أن تتوفر الطائرة على شاشات التليفزيون كالقطرية والإماراتية ضئيل جدا، نظرت في الأرجاء فإذا بمقابس ركبت لجوار جداريّة جعلت خصيصا لمن أراد أن يشحن هاتفه ويستعمل هاتفه أو اللوحة الرقمية التي زرعت على ذلك الجدار، وقفت برهة هناك حتى تورمت رجلاي فقررت الجلوس وكان من حسن حظي أن قام رجل من كرسيه المميز الذي يطل على أرضية المطار وبجواره مقبس كذلك، جلست على غير هيئة من حولي حيث أدرت ظهري للجالسين واستقبلت الحائط الزجاجي…

بينما أنا أتأمل المنظر في سكون بدأ شاب طويل يرتدي تبانا مزركشا وقميصا رياضيا ضيقا جدا وحذاء أحمرا لا يتناسب مع أي شيء من شكله ونظراته عرفت أن هذا الراكب هو الذي سيأخذنا سريعا إلى أجواء الجزائر…

حمدت الله كثيرا أنه لم يلاحظني أتفحصه بنصف عين وإلا كنت أول المتورطين معه، فبعد ثواني من دخوله تلك الصالة التي تعج بالمسافرين السكارى وماهم بسكارى طبعا حتى اشتبك مع أحد الجالسين لأنه كان ينظر إليه نظرة سخرية كما فسرها هذا الأنيق!!!، حاول المتورط الأول شرح الوضع وأنه لم يقصد النظر إليه إلا أنه كان يزداد صراخا مع كل كلمة اعتذار يتلفظ بها الرجل، ما اضطره ليرفع صوته كذلك، فجاء رجل من آخر القاعة يسعى لعله يدرك الأمر ويطفئ النار ويهدئ النفوس ولكن شاء الله أن يكون المتورط الثاني فصاحبنا لم يرض أن يتدخل أحد في معركته… فاشتبكا بالأيدي وكادت تقوم القيامة بقدوم عشيرة المتورط الثاني لولا تدخل الشرطة وموظف المطار الذي ندم على قدومه للعمل ذلك اليوم، هل هدأ ذو التبان المزركش بعد هذا ؟؟!! ياااااااا ليت لكن للأسف توالت معاكساته ومناوشاته وكاد يتورط كل من في القاعة معه بمن فيهم ربان الطائرة الذي مر به ولم يستطع غض نظره هههه، في تلك الأثناء قلت في نفسي هل كان حقا من الاصلح لي أن أعود في طائرة إجلاء مجانية وأسمع وأرى ما أنا فيه أم لو انتظرت فتح المطارات فأعود بتذكرتي مع القطرية في التاريخ الذي أختاره أحسن؟!!! (أترك الإجابة لك عزيزي القارئ)

وسط تلك المناوشات والوساطات التي كثرت وتعددت حتى شارك في إحداها القنصل بنفسه موجها كلامه لصاحب التبان المزركش قائلا “عيب عليك واش دير راك تفسد صورة الجزائر هنا ريح ترونكيل ولا درك نخرجوك منا” فصدم القنصل من رد المشاكس الذي يبدو أنه تناول جرعة زائدة من مخدر أو جعة فاسدة قال له “اطلقني باش نولي لبوكيت درك على رجلي” وبوكيت هذه ليس اسم عشيقته الماليزية وانما اسم شارع العرب الذي ارتبط اسمه للاسف بكل رذيلة رغم مافيه من أشياء أخرى حسنة!!. وسط كل ذلك كنت أضع سماعات هاتفي وأصغي لحفلة أقامها أصدقائي وداعا لي قبل شهور فخفف عازف العود عني سماجة ما كانت أذناي تلتقطانه رغما عنهما، حتى وصلت طائرة الإجلاء التي تأخرت عن موعدها بسبب تكليفها في آخر لحظة – حسب ما بلغنا – بإجلاء جزائريين علقوا في الهند، كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا فسارعت عربات شحن الحقائب إلى بطن الطائرة تحشوها وانتظرت شاحنة الوقود هدوء حركة تلك العربات الصغيرة المشاغبة لتصل أنبوبها وتروي عطشها وتزودها بما يكفيها للتحليق لمدة إثنتي عشرة ساعة كاملة!!!.

منظر وصول الطائرة وتجهيزها للرحلة كان سببا لفرحة عارمة للكثير من المسافرين وكأنهم لم يكونوا متأكدين من الإجلاء حتى وصولها فتزاحم الجميع أمام مقعدي لمشاهدة ما يحصل بينما بث البعض مشهد وصول الطائرة مباشرة على الفايس بوك.

أعلنت مكبرات الصوت بأنه سنصعد إلى الطائرة بعد لحظات ونبهت إلى أنه لن يتعيّن علينا اتباع رقم مقعد الجلوس المدون على تذاكرنا التي ضبطت على أساس أن يكون بين كل راكب وآخر مقعد فارغ حسب تعليمات السفر الجديدة في زمن كورونا ولكن بما أن الطائرة لن تكفي الجميع بتلك الطريقة فقد تنازل منظمو الرحلة عن هذا الشرط!!!، طبعا لأن الرحلة تجلي المسافرين إلى بلدهم ولا تدخلهم إلى ماليزيا وإلا لكانت الإجراءات غير ذلك .

الرحلة استغرقت 12 ساعة فيها ما ينبغي أن أقف عنده متأملا معلقا وكنت نويت أن أضم ذلك في هذه الحلقة العاشرة وتكون الأخيرة مثلما كتبت في أعلى الصفحة ولكن أدركت الآن أنني سأضطر لكتابة حلقة أخرى وربما حلقتين قبل أن أختم سلسلتي معكم في انتظار أن ابدأ سلسلة أخرى أتحدث فيها عن أهم أحداث الشهور الخمسة التي سبقت أسبوع الإجلاء.. لكن لن أغير عنوان الحلقة ولن أحذف عبارة “الأخيرة” حتى نرى عدد من سيقع في فخ ذلك العنوان فيظن أنني أتممت الحلقات فيقرأها دفعة واحدة مثلما يفعلون مع المسلسلات والأفلام فاتركوا الأمر سرا بيننا ، وسأعود إليكم بعد يومين في الحلقة الحادية عشرة التي سترافقونني فيها على متن الرحلة رقم 3801 التي ستنطلق على الثالثة فجرا بتوقيت كوالا لامبور الثامنة مساء بتوقيت الجزائر.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This site is protected by wp-copyrightpro.com