هذه قصتي.. من ماليزيا إلى الجزائر في زمن الكورونا (5)

0

الخميس الثالث والعشرون جويلية يوم قبل الإجلاء المرتقب، لم يكن مختلفا عن بقية الأيام التي مرت من حيث نشاطي الذي يبدأ بغسل الأواني وتحضير الفطور، ولكن يختلف من ناحية الضغط النفسي الذي صار عندي كالضغط الدموي أو نسبة السكر في الدم عند المرضى، فلا يكاد يستقر على حال حتى يتغير بشكل مفاجئ وشديد يصعب معه أحيانا التحكم فيه.

صار مزاجي متقلبا جدا رغم أني مدرك تماما لأهمية التحكم فيه وضبط نفسي وإظهار التفاؤل أمام الشيخ “ياسين” الذي يبذل مجهودا خرافيا لإلحاق إسمي بالقائمة، ويحرج نفسه أمام صديق الطفولة القنصل العام الذي لم يلتق به بشكل مباشر منذ ما يزيد عن عشرين عاما!!!، ومع ذلك يتواصل معه يوميا ويغرقه بالرسائل ويلح عليه بكل وسيلة ممكنة، كما أني كنت أرأف بحال من معي فالحبيب “يحي” لا يزال مضطرا لإخفاء فرحته العارمة بقرب رحلة العودة، و “منير” لا يفتأ يدعو الله جهرا وفي سره وعينه تكاد تدمع وهو يشحن عزيمتي بكلماته ودعواته لي بالفرج، بل وبخدماته و(تقلاشه) لي ومن ذلك إعداده بالأمس فقط لطبق “الحلو” الذي يعلم أني من عشاقه بعد طبخه لنا ذات مرة في إحدى ليالي رمضان الماضي.

أما “صلّوح” فحاله لم يكن أحسن من حالي بل كان الأقرب مني اضطرابا وتقلبا – مثلما توقعت وإن كان لم يتشجع ليصرح بذلك – فكان مثلي أحيانا يرجو الله أن يفتح علي بالذهاب فتنتهي القصة ونقطع مسلسل الانتظار والترقب، ويبدأ في تحضير نفسه للفراق واستئناف حياته ويعود ليومياته ما قبل تعارفنا في أواخر رمضان على مائدة إفطار بغرفتي M6/6، كان يتمنى أن يفرج الله علي وأرجع بسبب زوجتي وابني اللذان لم يعودا قادرين على تحمل الصبر أكثر على غيابي ، فكان يقول لي لما أتذكرهما أشفق عليهما وأتمنى أن تعود إليهما بسرعة ولو كان ذلك يؤلمني ويجعلني أخسر مؤانستك ورفقتك بعد كل هذه المدة التي لم نفترق فيها تقريبا..

واحيانا قليلة تتغلب الأنانية ويتناسى أمر الأسرة فيتمنى ألا يضاف اسمي ولا ارجع على الأقل إلى أن يمر عيد الأضحى الذي لا تفصلنا عنه سوى أيام، ولكي لا أزيد عذابهم كنت أحاول جاهدا إخفاء يأسي وحزني، ومن جهة أخرى لم أحب إحباطهم وهم لم يستسلموا بعد ولا زالوا يكافحون ويأملون في الفرج، فداخليا بدأت أحس براحة غريبة تشبه بشكل ما أثر المخدر أو الماريغوانا على المدمن الذي يغرق في عالم من النشوة والغبطة العميقة حتى يخيل لمن لا يعرفه أنه أسعد إنسان في العالم، لم افهم سبب تلك الراحة النفسية التي أحسست بها في صباح الخميس مع تأكدي من أني لم أستعمل أي مخدر أو عقار له آثار جانبية تمس الجهاز العصبي وتؤثر على الوعي والإدراك.

تفاؤل حذر بالعودة إلى الجزائر

في تلك الأجواء من الراحة النفسية تناولت الفطور مع الإخوة وقد انتشر في المكان حبور وروح تفاؤل حذر، لم يفصح عنه أحد بلسانه حتى لا يتهم بإفراط التفاؤل لاحقا عندما نعود من السفارة ونحن نجرجر ذيول الخيبة – لا قدّر الله –

بعد الفطور رافق “منير” خليله وأستاذه “يحي” ليقضي بعض شؤونه ويشتري ما بقي في قائمة المشتريات من أغراض لا يمكن تفويت شرائها بسعر مغري جدا وبجودة قل نظيرها في بلادنا، أما الشيخ “ياسين” فكعادته عاد إلى غرفته التي قضى فيها أوقاتا أكثر مما يقضيه السجين في سرير زنزانته، لا لشيء إلا لانكبابه على دورات تدريبية فقهية وشرعية اونلاين من مختلف دول العالم وبكل التوقيتات التي يمكنك تخيلها، وحرصه الشديد على الرد على سيل الأسئلة المتعلقة خاصة بالمعاملات التجارية وخصومات الشركاء بل وحتى فتاوى سئمت شخصيا من سماعها لكثرة ما وردني من آراء العلماء فيها حتى حفظت أحيانا حتى الأدلة والبراهين النقلية والعقلية والمقصد الشرعي!!، عدا عشرات المكالمات التي ترده من أهله ومحبيه ومريديه ويستحي الشيخ منهم ولا يقوى على عدم الرد عليهم ما يجعلنا نحن في حرج – أحيانا – حين نقف لصلاة الجماعة ننتظر انتهاء مكالمة طارئة أو نحلّق حول سينية الشاي عصرا أو مائدة الفطور أو العشاء – فالغداء من الوجبات التي ألغيت بشكل توافقي عجيب – والله أسأل هنا أن يغفر لي ما كنت أطلق من تعليقات ومزاح مع الإخوة والشيخ حين يتأخر لهذا السبب…

دخل الشيخ إذا إلى غرفته (مكتبه) وبقيت أنا و “صلّوح” في الصالون فانشغل هو بإعداد نفسه لمتابعة محاضراته عن طريق حاسوبه الذي ارتاح كثيرا أثناء فترة إقامة صاحبه معنا فقد أصبح دوره ينحصر في بث المحاضرات ظهرا ولمدة ساعتين يوميا فقط، بينما كان الحاسوب يحل محل التلفاز لما يكون “صلّوح” لوحده في إقامته الجامعية البعيدة جدا عن وسط العاصمة “كوالا لامبور”.

كان مزاجي رائقا بشكل عجيب فتمددت على الأريكة بعد أن وضعت صفا طويلا من المخدات خلف ظهري وفتحت ما بقي من الستائر لتنكشف الشقة على أشعة الشمس الضئيلة ذاك اليوم بسبب الغيوم التي بدأت كعادتها تتجمع قبيل العصر، وفتحت الباب الزجاجي الوحيد الذي ينفتح على أغرب شرفة رأيتها في حياتي!! فتخيل أنه لتضع رجلك في الشرفة (البالكون) عليك أن تنزل برجلك حوالي سبعين سنتيما وكأنك تنزل من شاحنة عملاقة إلى الأرض دون استعمال السلم !!!

فتحت الباب لينتعش المكان ونوقف استعمال المكيّف الذي اتفادى البقاء تحته لساعات طوال، أخذت هاتفي الذي صار يعاني من إلتصاقي به في كل حين إما متفحصا وسائل التواصل مجيبا على عشرات الرسائل التي يدور أغلبها في فلك “كورونا” سيئة الذكر أو معلقا على منشورات أو مطالعا لتقارير وإحصائيات أو مستغرقا في حوار شيق مع صديق أخذ على عاتقه مهمة تخفيف ألم الغربة القهرية التي أعيشها.

حملت الهاتف لأرسل ما يلطّف صباح زوجتي الغالية وينعش صباحها ويشحن همتها ولو لبضع ساعات قبل أن تسمع أخبار زيارتي للسفارة والتي لم أطمع في أن أعود منها بخبر يقيني بالذهاب أو عدمه، فقد كانت أقصى أمانيّ في تلك اللحظة أن أجد جوابا نهائيا مهما كان ليريح قلبي ويوقف إعصار الأفكار في رأسي!!،

مضت سريعا ساعتان كان خلالها كل من الشيخ “ياسين” و “صلوح” منشغلا بدراسته فاجتمعنا للصلاة ثم خرجنا قاصدين السفارة بنية محاولة اللقاء مباشرة بالقنصل الذي لم يعطينا أي جديد منذ البارحة عدا طلبه لوثيقة متعلقة بوظيفتي كطبيب لم نفهم من أين نتحصل عليها أمن إدارة المستشفى أم من مديرية الصحة أم الوزارة أم من البلدية أم إدارة الفلاحة والري ، بقينا نتناقش في قضية الوثيقة لبرهة لنصل في النهاية لخلاصة أنها ورقة لا توجد أصلا أو أنها من آخر اختراعات جزائر 2020!!

العودة إلى السفارة الجزائرية في كوالالمبور

قبل الخروج اختلفنا هل نرسل للقنصل رسالة مفادها أننا في طريقنا للسفارة فيستعد لاستقبالنا ولا يخرج قبل وصولنا، ولكن خفنا أن يتهرب من لقائنا لأي حجة ونكون بهذا أعطيناه الفرصة للتملص من اللقاء!! ، أم نحسن الظن بالرجل فهو صديق الشيخ “ياسين” فنخبره بمجيئنا، أم نذهب مباشرة دون إخباره حتى نصل لباب السفارة ولكن خفنا أن يتحجج بانشغاله بالعمل الضخم الذي وقع على عاتقه لتنظيم عملية الإجلاء التي سيستفيد منها قرابة 300 جزائري، هكذا تعلمنا بالخبرة المتوارثة فنون التعامل مع الإدارة الجزائرية التي لا تترك للعفوية أو التلقائية مكانا في تعاملها مع المواطن البسيط ، في النهاية ونحن نرتدي أحذيتنا رأينا أن نتبع الرأي الثاني والله المستعان.

كان الجو يزداد تلبدا وبدأت الرياح تعصف أكثر فتنبأت بقرب هطول أمطار غزيرة على غير العادة، فحثثت مرافقي الشيخ “ياسين” و “صلوح” (الذي ضحى بقيلولته اليوم وأصر على مرافقتي حبا منه في دعمي والوقوف لجواري في هذه اللحظات التاريخية) على الإسراع قبل بدأ هطول الأمطار الطوفانية التي تعرف بها ماليزيا وبقية دول خط الاستواء، لم أكد انتهي من تحذيري واستماعي لخطبة مقتضبة عن فضل المطر واستجابة الدعاء وحاجة الزرع والضرع لها ووو تكفل بإلقائها على غير المنتظر شيخنا الجديد “صلوح” الذي كان أكثرنا تضررا بالمطر هههه، فابتل حتى وصل الماء لملابسه الداخلية ولم يعد بحاجة للاسراع وتفادي الماء لأنه ببساطة كان كالقط الذي حاول القفز فوق بركة ماء فوقع وسطها .

حين وصلنا للسفارة احتمينا بظل شجرة ضخمة غرسها جار السفارة مشكورا مأجورا في حديقته، كان احتماؤنا هناك بغرض أن يقوم الشيخ “ياسين” بالتواصل مع صديقه القنصل عبر الواتساب برسائل ثم باتصال ان لزم الأمر، كان المطر غزيرا جدا لدرجة أنه لا يكاد يكتب كلمتين حتى يسلمني هاتفه لأدخله تحت قميصي لأقوم بتنشيفه وتجفيفه باستعمال ما بقي من لباسي الداخلي الجاف!!، انتظرنا لنصف ساعة تقريبا ولم يصلنا أي رد فقررنا الذهاب للباب الثاني في السفارة الذي يقع في آخر الجدار الأبيض الطويل، هذا الباب لم ألاحظه رغم أني كنت هناك بالأمس ربما لأن الجزائريين لم يتجمعوا أمامه..،

وجدنا على جانبي الباب جرسين لم نفهم أيهما للزوار البسطاء كحالتنا؟! فاعتمدنا على نظرية :”قم بما تريد فعله مع الاستعداد للاعتذار لاحقا” استعملنا الجرسين معا وأثناء الانتظار رمقت علما يرفرف في الفيلا المجاورة للسفارة من جهة اليسار فأخذني الفضول لاعرف أي دولة هذه اختارت أن تكون جارة لدولتنا في موقع السفارة، فوجدت لافتة مكتوبة بثلاثة لغات عرفت منها الإنجليزية والمالاوية وفيها أنها دولة “لاو” LAO التي أظن أنها آسيوية لأن زوجة السفير التي خرجت لاحقا بالسيارة مع سائقها تبدو آسيوية الملامح إلا إن كان سعادة سفير جمهورية “لاو” الشقيقة والجارة قد تزوج من خارج بلاده مغضبا أمه وجدته .

هل تعتقد عزيزي القارئ أن أحدا من موظفي السفارة الجزائرية في ماليزيا وعلى الساعة الرابعة والنصف عصرا – أي بعد نصف ساعة من انتهاء الدوام الرسمي – وفي خضم العمل المتواصل لأيام في إعداد حملة الإجلاء، وباستحضار أن المشتكين والمتظلّمين والمحتجين على إقصائهم من الإجلاء قد غزوا السفارة طوال الأيام الماضية وربما نقص عددهم بمرور الأيام واقتراب موعد الذهاب وربما حتى هطول الأمطار الغزيرة هذا اليوم…،

هل تعتقد عزيزي أنهم سيجيبون علينا ويفتحون لنا الباب؟ أو على الأقل يجيبون علينا في الآنترفون (المجيب الآلي) فنحظى بسماع صوت “ولد البلاد” ونستمتع بلهجتنا الجزائرية التي لا يفهما ولله الحمد غيرنا، ونبدأ بعد انتهاء الحديث في توقع الولاية الأصلية للمتكلم .

لن يطول إنتظاركم مهما كان فهو غالبا لن يزيد عن اربع وعشرين ساعة لمن بقي وفيا لحلقاتي وضبط ساعته على توقيت تنزيلي للحلقات في صفحتي، فانتظارنا نحن تحت المطر وإن كان لدقائق أشد وقعا منك عزيزي القارئ الذي اتخيلك تشرب قهوتك أو شايك وأنت تستمتع بقراءة هذه السطور وتبحر في بحر الخيال ترسم بكل إبداع وجوه الشخصيات وتهندس المواقع والبنايات والشوارع.
#يُتبع

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This site is protected by wp-copyrightpro.com