هذه قصتي.. من ماليزيا إلى الجزائر في زمن الكورونا (4)

0

هل تساءلتم أين كان زوج تلك المرأة طوال حديثنا أمام السفارة؟!! (إيه والله وين كان الراجل)، كان يقف مع مجموعة من الشباب ولما احتاج أن يتأكد من أن زوجته اتصلت هاتفيا بالاستقبال تقدم نحونا وسألها ثم وقف قليلا ليستمع لحديثنا بعدها انصرف مرتاح البال، مفسحا المجال لزوجته لتفرغ ما في قلبها وتشارك غيرها تجربتها الناجحة في الخروج من أزمتها النفسية.

للدخول إلى الإقامة التي استأجرنا فيها شقة مفروشة فخمة لا نجد مثلها في الجزائر بمثل سعرها بكل تأكيد، لابد من أن يأتي من يفتح لك البوابة الإلكترونية ويضع البطاقة الذكية فوق مستشعر بالمصعد حتى يتحرك، نزل الشيخ “ياسين” كعادته مبتسما فرحا بعودتي وكأني ألقاه لأول مرة بعد أشهر من الغياب، فبقاؤنا معا منذ عيد الفطر وكثرة خرجاتنا معا وتعدد جلساتنا الودية والفكرية جعلتنا نلتصق روحيا ونفسيا مثلما يلتصق القلب بالرئتين فلا يقوى أحد العضوين على فراق جاره.

ونحن نصعد أعطاني جديد مكالماته الماراطونية مع القنصل وأخذ يشرح لي بأنه متفائل جدا ولا يظن أنه سأحرم من الذهاب لأني لم أسجل في الموقع، وبالمقابل حاولت أن أجاريه في تفاؤله خاصة وأن صدري انشرح بعد لقاء المرأة فقلت له يبدو أن الأمور فيها خير، وفي النهاية لست وحدي من تم إقصاؤه وهناك حالات أشد مني وهي أحق بالذهاب.

دخلنا البيت فطلبت منه ألا يرفع صوته لأن “صلوح” نائم فاستغرب وقال لي لم أكن أعرف ذلك!! قلت له وكيف تعرف وأنت غارق إما مع كتابك وبحثك أو مستغرق لساعات في مكالماتك الواتسابية والفايبرية تفتي وتجيب كل سائل وتهدي كل حيران..

جولة في منطقة للمحلات العربية بكوالالمبور

صليت الظهر والعصر فأحسست بإرهاق شديد فاستسلمت للنوم بجوار “صلوح” الذي استشعر وصولي لكن فضل ألا يتحرك لأنام فيربح ساعة نوم إضافية ههه، استيقظت قبيل أذان المغرب فصلينا وخرجنا للتجول في أرجاء الحي الذي لا نعرف عنه الكثير لاننا ندخل إليه من جهة الطريق السريع بالسيارة ولا نعرف ما يحدث في الجانب الآخر منه، قررنا أن نسير في اتجاه اليسار لنستكشف ما فيه معتمدين على ذكائنا الجغرافي إضافة إلى اتخاذ العمارة كمرجع لأنها مرتفعة جدا ومميزة ويمكن رؤيتها من كل مكان، سرنا حتى وصلنا لمنطقة تجتمع فيه عدة محلات عربية يمنية وليبية وعراقية – على ما أذكر – تبيع منتجات عربية من خبز وألبان وأجبان وتمر وبخور وعطور وتوابل ولوازم يتطلبها المطبخ العربي..

قمنا بجولة قصيرة كان الهدف منها تخفيف الضغط النفسي وتناسي ظروفنا وقضاء أكبر وقت معا فكما كنت أردد لرفيقي أنه لابد وسيأتي يوم نفترق فيه، وستصير لحظاتنا تلك مجرد ذكريات طيبة نتذكرها والدمع يملء أعيننا وقد تكون هي كل ما يتيسر لنا في حياتنا من لقاء وجوار ومصاحبة، فكنت أوصيه أن نستغل كل لحظة في غربتنا تلك لنبقى قريبين من بعض ولا ننشغل بما نستطيع القيام به لاحقا حينما نفترق، فقد مررت بتجارب عديدة وصاحبت أناسا أخيارا كثر تحسرت كثيرا لفراقهم وتحسرت أكثر لأني لم استثمر كل وقتي بجوارهم، ففي الغربة لن تجد أحنّ ولا أرأف من حضن ابن بلدك وبلدتك ولن تتغلب على مرارة البعد عن الوطن والأهل إلا بحلاوة معشر رفيق مؤنس .

رسالة إلى السفارة الجزائرية

في طريق عودتنا لشقتنا توقفنا بجوار جسر المشاة وافترشنا العشب لأكتب رسالة طلب للسفارة لضم اسمي لقائمة الإجلاء، واستعملت حجة انتمائي لقطاع الصحة وقرب انتهاء عطلتي المطولة وحاجة المستشفى الذي أعمل فيه للأطباء خاصة مصلحة الكوفيد التي تعاني من قلة الإطار الطبي والشبه طبي!!!، و ذيّلت الرسالة بأرقام التواصل وأرسلتها وأنا أقول في نفسي: من سيهتم بفتح رسائل الإيميل في هذه الأيام التي يبدأ فيها عمال السفارة العمل على التاسعة صباحا تقريبا ولا ينتهون إلا بعد العاشرة ليلا!!، وحتى لو فتحوا بريد الرسائل الواردة فهل سيجدون الوقت للرد؟!. فلم يكن قيامي بهذه الخطوة إلا إرضاءا لنفسي اللوامة وللمرأة التي أعطتني العنوان البريدي ولرفيقي “صلوح” الذي ذكرني في تلك اللحظة بكتابة الإيميل.

أحيانا يصل الإنسان إلى نقطة لا يتحمس فيها للقيام بأي خطوة حتى لو لم تكلفه أي شيء، ليس يأسا من إيجاد حل لأنه قد يرى خيط النور في آخر النفق ولكن لأن نفسه سئمت كل شيء وتألمت بما فيه الكفاية وزيادة، وصار الألم شيئا معتادا بل وربما ممتعا حين يصل المرء لحد تعذيب الذات!!!، شخصيا أحسست بأن هناك قوة تسيّر الشؤون (وهو الله طبعا) وأنني لن أغير مشيئتها بأي شيء أفعله فلما أتعب نفسي ! فلأترك سفينتي تبحر حيث هبت رياحها !
لكن هذا الإيميل الذي كتبته على عجل وأرسلته دون مراجعة يبدو أنه كان مصدر رقم هاتفي الماليزي لموظف السفارة والذي تلقيت من خلاله بشارة ضم اسمي لقائمة الإجلاء بعد حين.

حين دخلنا الإقامة جلست مع رفيقي في الحديقة المعلقة في الدور الثامن من المجمع السكني ARTE+ condominium وأتممنا حديثنا الذي بدأناه ولم ننته منه حتى آخر لحظة وداع في المطار!، استغليت الفرصة لأسمعه التسجيل الصوتي لابني الحبيب و الذي أبكاني قبل يوم ليفهم سبب انهياري النفسي ويتفهّم أي ردة فعل أو موقف قد يصدر عني، فلا أقل أن يدرك الرفيق مشاعر صاحبه ليخفف عنه ويجاريه و يحتويه..

ونحن جالسان في الحديقة مر أمامنا الأخوين “يحي” وصفيّه “منير” يحملان أواني بها ما وعدتنا به أم “يحي” الفاضلة قبل أيام من أكلة تقليدية لم يخطر على بالي أنني سأحظى بها بعد ستة أشهر بعيدا عن الأهل، أكلة تقليدية بامتياز يرتبط ذكرها بمناسبات اجتماعية واحتفالية كثيرة، فرغم بساطة مكوناتها إلا أنها ترتبط في الإدراك أو العقل الجمعي للميزابيين بأوقات مميزة من حياتهم الإجتماعية، ولعل سر لذتها ليس في ذوقها وإنما في الوجوه التي تجتمع حول قصعتها وتتشارك لحظات الأنس والقرب والتضامن والتراحم تلك… . تعرف الأكلة باسم “إوزان” وهي لمن لا يعرفها ولم يحظ بتذوقها عبارة عن مرق القمح الصلب الذي طحنت حباته بشكل يسير بحيث تكسر الحبة إلى جزئين أو ثلاثة.

انتظرنا حتى انضم إلى عشائنا الاخ “رفيق” الذي صار مدمنا على زيارتنا والسهر معنا رغم بعد بيته عنا وارتباطه بعمله اليومي الذي ينتهي غالبا في ساعة متأخرة من المساء، فيبدو أنه شعر بدنو موعد مغادرتنا لماليزيا فلم يود تفويت فرصة اللقاء بنا يوميا قبل يوم الرحيل..

أعتقد أنك عزيزي القارئ تدرك تماما فرحتنا بتلك الوجبة وتتخيل طعمها ولكن أحب أن أضيف لوعيك لذة أخرى إلى لذة المذاق والمنظر وهو روعة رائحة الأكلة، للأسف أغلبنا يغفل عن الاستمتاع بروائح الطعام المتنوعة والمتمايزة ولا يدرك دور الرائحة في التلذذ بطعامنا إلا حين يصاب بالزكام – أو بالكوفيد 19 لمن زاره – ويفقد حاسة الشم ومعها أو بعدها حاسة التذوق، ولأني أدرك أهمية ذلك صرت آخذ وقتا إضافيا في كل وجبة مهما كانت حيث أشتم فيها روائح الطعام تماما مثلما يفعل القط قبل أن يتناول أي شيء تضعه أمامه، فتخيل معي روعة رائحة الخبز الساخن يعلوه حبات من الحبة السوداء، أو أريج قهوة حديثة التحميص ألقيت فيها وريقات من شجرة الليمون، أو رائحة الكاكاو تنبعث من علبة شيكولاته سويسرية.. ألا تستحق هذه الروائح أن تمنحها بعضا من وقت طعامك؟!!!

بعد العشاء كانت سهرتنا خفيفة مع ما اختاره لنا “رفيق” من أغاني قديمة أغلبها من الطابع الشعبي الجزائري والذي أبدع في أدائه فنانون عرب وأمازيغ بل ويهود، رغم جمال تلك الجلسة غير أني حملت كأس الشاي وجلست على الأريكة بعيدا عنهم حتى لا أفسد عليهم جو المزاح والنكت والتعليقات الساخرة وانشغلت أنا بهاتفي والرد على أسئلة زوجتي التي لم تكن تدرك أنني في عذاب شديد وأنا أعيش في عالمين متناقضين، عالم تجهُّز الإخوة للسفر ووداع من سيبقى هناك لهم واستغلال كل لحظة بينهم، وعالم الحسرة والألم الذي أعيشه داخلي مع زوجتي وأمي، فلا أنا تيقنت من عدم ذهابي للجزائر حتى أستغل وقتي في وداع الإخوة والتحضّر لما بقي لي من شهور هناك ولا أنا بُشرت بالذهاب لأعد العدة للسفر..

في تلك الليلة نمنا أبكر مما تعودنا عليه سابقا لكن دون تفويت مشاهدة جزء يسير من حلقة جديدة من المسلسل الذي صار من الطقوس اليومية الثابتة لي ول “صلوح” رفيقي في الأريكة التي تتحول لسرير لنا.

في اليوم الموالي استيقظت باكرا لأبدأ يومي كالعادة بجلي الصحون والقدر الكبير الذي علق في أسفله ما احترق من “إوزان” الذي لا يحلو طعمه ولا يكتمل مذاقه إلا باحتراق جزء منه، حضرت الشاي كالعادة فقد ابتلاني الله مما ابتلاني به إتقان تحضيره فصار الجميع يتأخر عن هذه المهمة حين أكون حاضرا .

أثناء الفطور ظل الشيخ “ياسين” يقلب هاتفه وأنا ساكت لا اجرؤ على سؤاله عن جديد تواصله مع القنصل الذي يرد أحيانا بسرعة على رسائله ويتباطئ بشكل مريع مرات أخرى، ولأعرف الجديد دون إحراجه سألت الإخوة عن برنامجهم في ذلك اليوم وقد بقي يومان قبل موعد السفر، فقال “يحي” بأن له مشاغل كثيرة بعضها في الجامعة الإسلامية وسيرافقه عضده الأيمن “منير”، وأما الشيخ “ياسين” فأبدى رغبته في زيارة المركز التجاري الهندي “لولو” لشراء بعض الهدايا والحاجيات فقلت بأني في خدمته لمرافقته وسأستغل الفرصة لشراء ما يمكن أن يصلح كسلام لأهلي وكهدية للعيد الذي بدأت أتجهز نفسيا لقضائه بعيدا عنهم . فالأمل في إدراك العيد معهم صار أبعد ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، لذا بدأت أفكر في نوع الهدية التي أرسلها لزوجتي فتكون لها مؤنسا وحافزا على الصبر أكثر، ويكون حملها خفيفا على من سيأخذها.

التسوق في كوالالمبور.. هل أشتري الهدايا من ماليزيا؟

لما كنا نتجول في المركز التجاري وأرى انبساط الشيخ وهو يختار هداياه لأفراد أسرته كنت أتقلب بين الفرحة له والحسرة على نفسي..، فتساءلت بصوت مسموع ماذا أفعل أنا أأشتري وكأني ذاهب معكم وأُمنّي نفسي بحمل الهدايا بين يدي وأصرف مالا سأحتاجه إن بقيت هنا شهورا أخرى؟!، أم أكتفي بهدية واحدة لأمي وأخرى لزوجتي وابني فقط؟!

خلال جولتنا لم أتمالك نفسي فطلبت من الشيخ “ياسين” أن يشرح لصديقه القنصل أنني طبيب والمستشفى الذي اعمل فيه بحاجة لخدماتي خاصة في ظرف الجائحة التي تمر بها البلاد… فقال أبشر سأكلمه في الأمر.

عدنا للبيت بعد جولة طويلة بين مراكز وأسواق كوالا لامبور اشتريت خلالها هديتين اثنتين لزوجتي وولدي وهدية لوالدتي، وساعدت أنا و “صلوح” الشيخ في حمل أكياسه عسانا نحمل أكياس هداياي غدا في آخر يوم بقي فيه رجاء أن تستجيب لنا السفارة لمطلبنا.

ننام تلك الليلة بعد عشاء مميز للغاية حضره لنا “منير” وفي ذهني فكرة واحدة وسؤال وحيد… متى تنتهي هذه القصة؟! متى أعرف مصيري وأفعل ما يلزم بناء على ذلك؟! أفرح وأحتفل واشتري الهدايا وأستعد لأبكي لفراق أحبابي هنا، أم أسعتد لفراق رفيقاي وأخطط لما سيأتي من شهور أخرى في ماليزيا…، قبل النوم تجرأت على الشيخ “ياسين” فطلبت منه أن يتكرم بمرافقتي إلى السفارة في اليوم الموالي كآخر خطوة أفعلها لأريح ضميري وأعذر نفسي حين تسألني زوجتي عما فعلت فيما استطعت!

زيارة السفارة يوم غد الخميس قبل يوم من موعد الرحلة كان لها أثرها المطمئن جدا للجميع إلا أنا ! لأني سمعت فيها مالم يسرني…

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This site is protected by wp-copyrightpro.com