هذه قصتي.. من ماليزيا إلى الجزائر في زمن الكورونا (1)

0

احترت من أين أبدأ التدوين لتجربتي وكيف أدخل في الموضوع دون مقدمات بحيث لا يمل القارئ من تفاصيل قد يراها غير معنيٍّ بها ويجدها البعض مهمة لفهم أحداث تجربتي…، لذا سأعتمد على طريقة كتابتي المعتادة وهي التلقائية والعفوية في السرد مع الالتزام بضوابط اللغة والتسلسل الزمني وضبط بعض المسميات والمعاني.

خلال الشهور الستة الماضية قضيت نصفها الأول طوعا واختيارا وراضيا وعشت نصفها الثاني مضطرا ومجبرا ومتأرجحا بين السخط والرضا!، تراوحت فيها الأحداث والمواقف بين السار جدا والمبكي المقنط.

كنت أخطط لهذه الرحلة العلمية منذ شهور حيث عقدت العزم على تخصيص شهرين لتحسين لغتي الإنجليزية التي أصبحت حاجتي إليها تزداد يوما بعد يوم، خاصة مع كثرة أسفاري وتولّي مسؤولية رئاسة “مؤسسة سبيلي الخيرية” والتي تتطلب مني ربط علاقات مع منظمات خيرية عالمية والتواصل مع شخصيات من القارات الخمس..، عدا حاجتي لها للبحث في المجالات التي أهتم بها كالطب وإدارة المنظمات وتطوير الذات…، اخترت ماليزيا لعدة أسباب أهمها سهولة الدخول إليها وانخفاض تكاليف الدراسة والإقامة مقارنة ببريطانيا وأمريكا ولمستوى بعض معاهدها المقبول عموما..

إذا كانت الخطة أن أدرس لشهرين وأصرف الشهر الثالث في التجوال والسياحة وتطبيق ما تعلمته وتحسين مهاراة التواصل عندي، حيث خططت لزيارة جزيرة بالي باندونيسيا، حتى جاءت كورونا فأغلقت الدول وغيرت خطط ملايير البشر ومنهم خطط العبد الضعيف!

هل يهمك حقا أن تعرف هذه التفاصيل التي ذكرت ربما لا ! على كل قد قرأتها على أي حال، وإن كنت تريد تفاصيل عن فترة الدراسة تلك وكيف انقلبت الأمور راسا على عقب فستجد تلك الأحداث في إحدى الحلقات المقبلة.

لعلها الساعات الأخيرة في كوالالمبور

من ماليزيا إلى الجزائر

أما في هذه الحلقة سأقفز بك إلى آخر حلقة من مسلسل رحلتي وسأروي لك الساعات الأخيرة لي في كوالا لامبور والساعات الأولى لي في أرض الوطن (إن اتسع الوقت لذلك!) ، لعلك ستبكي معي ولعلك ستغضب مثلي ولعلك ستتضامن معي في لحظات الانكسار…، لكن صدقني لن أستطيع مهما أُتيت جوامع الكلم وسحر البيان وأحطت بعلم الكلام أن أنقل لك تلك الأحاسيس والمشاعر التي كانت تتناطح داخلي، فحسبي أن أصوّر لك جزءا يسيرا مما عشته ليسليك إن كنت تقرأ لغرض التسلية أو يعزيك إن كنت خارجا من محنة وتظن أنها الأشد والأقسى..، لا أدري لك الخيار في ذلك

في بداية الأزمة تم إغلاق الحدود و المطارات بشكل سريع ومفاجئ في بعض الدول ومنها الجزائر ما جعل الملايين يُحتجزون في أماكنهم، فتعالت الاصوات مطالبة بإجلاء العالقين إلى أوطانهم، استجابت دول سريعا وأجلت مئات الآلاف في غضون أيام بينما تراخت دول أخرى ولم تلتفت لتلك النداءات رغم قسوة ظروف بعض العالقين..، كنت شخصيا أتابع تلك الأحداث بعين والعين الأخرى منشغلة بمتابعة جديد الفيروس وبملاحقة التقارير العلمية والإحصائيات في محاولة يائسة للاحاطة بكل ما ينشر في الموضوع لأفهم ثم لأنقل بشكل مبسط ما فهمته للجمهور المتعطش لفهم أضخم وأقسى جائحة يتعرض لها البشر منذ الإنفلونزا الإسبانية سنة 1918.

بكل صراحة لم أهتم كثيرا بقضية الإجلاء من ماليزيا ولم أكن قلقا بشأن بقائي لأسابيع أو حتى أشهر إضافية هناك، لعدة أسباب سأتعرض إليها لاحقا، لكن لما أطلقت وزارة الداخلية صفحة في موقعها لتسجيل كل الجزائريين العالقين الراغبين في العودة لأرض الوطن، انهالت علي الرسائل الماسنجرية والواتسابية الداعية بالاسراع في التسجيل، في تلك اللحظة ارتبكت ولم أدر أي #الأحمدين داخلي على حق، كلما تلقيت رسالة من صديق تحفزني على التسجيل في أرضية الموقع إلا واحتدم النقاش والصراع بين الأحمدين: ف #أحمد_العقلاني يقول بأن التسجيل في الموقع خطوة لابد منها حتى لو غيرت رأيي لاحقا وقررت عدم العودة مع الإجلاء وعلى حساب الدولة، كما أنه حقي على الدولة أيا كان من يمثلها أو يديرها أن يعتني بشؤوني ويرعى مصالحي؛ وأما #أحمد_العاطفي يقول لا، لا يجب الرضوخ والتنازل عن مبدأ عدم قبول منة وفضل ممن لا يستحق الحكم وأخذ السلطة عنوة، هذا ليس وقت التخاذل والتراجع خاصة وأن الحراك الفعلي قد توقف فلا أقل أن نواصل حراكنا الفكري…

ضللت أقلب الأمر ليومين في رأسي وأدرسه من كل النواحي حتى صرت أحس بصداع شديد، لم يسببه لي الصيام ولا قلة النوم بقدر ما سببه لي صراع الأفكار وعدم توصلي لحل وسط يرضي الأحمدين!

أخيرا قررت أن أسجل في المنصة ولكن بنية أن أسكت النصف الذي يدفعني لذلك وليس بغرض الاستفادة من الإجلاء، أخذت الهاتف ودخلت للمنصة وملأت الاستمارة كلها ثم نقرت على Submit ولكن الاستمارة لا تمر! وترجع لي نفس الصفحة مع ملاحظة أن الإيميل خاطئ لم أتفاجئ فهذا عادة مواقع الوزارات ! أعدت إدخال الإيميل مرة واثنتين وثلاثة بلا فائدة، غيرت الإيميل ولكن نفس النتيجة، أنشأت إيميلا جديدا ولكن لا يقبله الموقع، أنشأت بريدا آخر نفس الشيء !! تذكرت أن عندي إيميل قديم فجربته فلم ينفع، بدأ أحمد المبادئ يهمس قائلا هل يعقل أن تتسول الإجلاء وأنت لا تحتاجه، دعك من هذا وأحمد العاقل يرد بل عليك أن تستنفذ الحلول وتحاول..

رميت الهاتف بعيدا ورحت أبحث عن شيء يرفع الكدر عن ذهني، فوقفت بنافذتي أتأمل مشهد ناطحات السحاب من بعيد والسحب تمر حولها واضواء العمارات تتوهج وسطها راسمة لوحة بيضاء مليئة ببقع حمراء وبيضاء وسوداء..

إجلاء مفاجئ.. من ماليزيا إلى الجزائر

في اليوم الموالي جربت التسجيل من حاسوبي المحمول لعله يكون مقبولا عند السلطات ! لكن هو الآخر فشل في تمرير حزمة الإيميلات التي جربتها، فكانت آخر حيلة قمت بها هو محاولة التسجيل في اوقات متباعدة لعل الضغط يكون على الموقع أخف في إحدى تلك الأوقات.. لكن هيهات فالموقع أقسم ألا يقبل استمارتي بدأ أحمد المتعقل ينسحب ويتوارى خجلا فقوي صوت أحمد الثائر ورأيت أن أعطيه دفة القيادة وأنسحب وأتوقف عن المحاولات الجنونية.

لم أخبر إلا القليل من الأصدقاء بأني فشلت في التسجيل وكنت ادعو الله أن يتم فتح المطار في الجزائر قبل الإجلاء حتى لا أضطر لكشف هذا السر..، غير أن خبر الإجلاء جاء في يوم غير عادي ابدا وبطريقة أقل ما يقال عنها صادمة!، فبعد أن راجت أخبار عن قرب تنظيم الدولة لحملة ضخمة للإجلاء ثم تصريح الوزير الأول بذلك، لم أصدق ذلك واعتبرته حلقة من مسلسل الوعود الكاذبة المعهودة، ثم بدأت رسائل تدور في وسائل التواصل فيها قائمة بالبلدان المعنية بالإجلاء وتواريخ الحملة!!! هنا بدأت أشك في أن الأمر جدي نوعا ما..

عدت ومن معي من رحلة إلى شلال شامانغ في إحدى ضواحي كوالا لامبور وبينما أنا جالس أحاول استيعاب المفاجأة التي أعدها رفاقي لي بمناسبة عيد ميلادي حيث أحضروا لي كعكة للاحتفال، بينما نحن جلوس نحتسي كؤوس الشاي بدأ أحد الحاضرين يقرأ آخر الأخبار… يا إلهي يبدو أن الأمر جدي هذه المرة، فكل وسائل الإعلام الرسمية و (الخاصة) تتحدث عن الإجلاء بل وبتحديد تواريخ الإجلاء من كل دولة، ماليزيا والولايات المتحدة الأمريكية يوم 25 جويلية أي بعد خمسة أيام من الآن !!

بقينا مذهولين لعدة دقائق غير مستوعبين لما نقرأ وغير مصدقين بأن الإجلاء قادم بهذه السرعة، ونحن كنا قبل ساعات خلال الرحلة نخطط لرحلة عيد الأضحى ونضع الترتيبات لشراء الأضحية ووو، شخصيا لم أحب أن أفكر أكثر في الأمر لأني لم أكن أتحمل كم المشاعر المتناقضة التي انهالت علي في ذلك اليوم.
قررت عدم التفكير في الأمر بتاتا في تلك الليلة وتشغيل التلفاز لمشاهدة المسلسل الذي بدأت متابعته منذ أيام مع رفيقي ومؤنسي “صلوح”، والصباح رباح كما يقال..
في الصباح تأتي الأخبار بتأكيد عملية الإجلاء مع أسماء المعنيين بها ويأتيني الامتحان الثاني والذي كان أشد قساوة على نفسي وكاد يحطم فيّ ما بقي من يقين وجلد وصبر!

أظن أني سأتوقف هنا اليوم لتستعدوا لسماع بقية المأساة غدا وتعيشوا معي تفاصيل أصعب خمسة أيام عشتها أنا وزوجتي منذ زواجنا ثم تعيشوا تجربة الفرج الذي يأتي في آخر لحظة من اللطيف الخبير.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This site is protected by wp-copyrightpro.com