هذه قصتي.. من ماليزيا إلى الجزائر في زمن الكورونا (9)
عدد الجزائريين الذي حضروا لتوديع الذاهبين كان كبيرا فكان من الصعب التكهن بالعدد الحقيقي للمسافرين، بقينا ننتظر في مجموعات صغيرة ومتوسطة في مكان قريب من الشبابيك التي خصصتها إدارة المطار لرحلتنا الإستثنائية وقد كتب فوقها اسم قسنطينة بالفرنسية وحسب الإخوة الطلبة فهذه هي أول مرة تنزل فيها طائرة تابعة للخطوط الجوية الجزائرية مطار كوالا لامبور .
جاء بعض موظفي المطار ومعهم شرطيان لتنظيم عملية التسجيل والتثبت من الهويات وتسليم الحقائب فطلبوا منا الاصطفاف في صفين ولكن لضيق المساحة وتكدس المسافرين مع مرافقيهم لم يكن الأمر بتلك السهولة المعتادة هنا!!! فالماليزيين يقفون في طابور دون حتى أن يطلب منهم أحد حتى لو كان لشيء روتيني بسيط مثل الدخول للميترو مثلا، ولكن الشعب الجزائري العظيم لا زال يرى في الالتزام بالطابور مهانة ومذلة تذكره بأيام الزيت والسميد والسكر !!! ولا يفرق بين طابور المطار والخضّار.
بصعوبة شديدة استطاع الشرطيان اقناع الجموع بترك مساحة بينهم والالتزام بخط ينتهي بأحد الشبابيك والحق أنني و”صلوح” كنا أحد أولئك الذين لم نتباعد إلا نادرا وظل يتقدم معي في الطابور، إلى أن طلب المنظمون من العائلات التقدم لطابور خاص بهم وأخبرونا أنه يمكننا البقاء في صالة المغادرين وعدم الخروج إلى منطقة شرطة الحدود إلا ساعتين قبل موعد الإقلاع، فرحت لهذا الإجراء لأنه يعني أنني سأربح وقت إضافي مع “صلوح” و “منير” وبعيدا عن ضوضاء الجزائريين في صالة الإقلاع، اتفقت مع “صلوح” و “منير” أن نلتقي بعد الانتهاء من الإجراءات فتقدمنا أنا والشيخ “ياسين” و “يحي” ووالدته الفاضلة على أساس أننا عائلة واحدة، طبعا لم يأخذ منا قرار تشكيل “عائلة” وقتا طويلا فالضرورات تسهّل الممكنات فأصبحت في ثواني ابن الشيخ و”يحي” شقيقي من ماليزيا.
بفضل طابور العائلات انتهينا من التسجيل في وقت وجيز بل وفي طريقنا للشباك تبنينا ابن أختي “وليد” وصار ضمن أفراد عائلتنا التي يحمل أفرادها أربعة ألقاب مختلفة ، وسجلنا حقائبنا معا ما جعلنا نربح كيلوغرامات إضافية وفاق مجموع ما حملنا القنطار ونصف على ما أذكر !!، بعد أن تسلمنا تذكرة الركوب اجتمعنا بمرافقينا من جديد وشخصيا فررت من منطقة التسجيل مخافة أن أشاهد ما لايسرني من مشاحنات وشجارات تعودنا نحن الجزائريين رؤيتها في الرحلات العادية فكيف بهذه..، توجهنا إلى مصلى في ركن المطار لنؤدي صلاتي المغرب والعشاء وهما آخر صلاتين سنودع بهما هذا البلد الذي يقال أنه من أنجح الدول الإسلامية .
كنت أعد الثواني والدقائق التي تفصلني عن مغادرة ماليزيا بعدما كنت أحصي الأيام والأسابيع التي بقيت فيها “عالقا” أو بعبارة أدق “مقيما” فلم أشعر ولو للحظة بأن وقتي يضيع أو أني عالق بلا هدف أو عمل أو شيء يشغلني..، في تلك اللحظات بعد الصلاة أخذت أسترجع شريط الذكريات بحلوها وهو الأغلب ومُرِّها في هذا البلد الشرق آسيوي الذي طالما تمنيت زيارته منذ أن وعيت وقرأت عنه الكثير، شاءت الأقدار أن أقيم فيه وأتعرف عليه في وضع خاص جدا وأعيش بنفسي ردة فعل الدولة والشعب تجاه جائحة هزت كل أركان العالم الحديث. فكان ما شاهدته درسا لي لم أقرأ عنه ولم يكتب أصلا عنه أحد من قبل وفرصة لي لأتعرف عن قرب على الحكومة الرشيدة و الحوكمة و المسؤولية الاجتماعية ومفاهيم سياسية واجتماعية عميقة قد أحتاج إلى التسجيل في كليات لفهمها، مع الأخذ بعين الاعتبار شغفنا كحراكيين لكل تجربة ملهمة تفيدنا في مسيرة بناء دولة القانون والعدالة التي نتطلع إليها في بلادنا… .
اكتشف الشيخ “ياسين” أن الشاحن المتنقل Power Bank لم يكن مشحونا وبالتالي لابد له من شحن هاتفه إلى أقصى حد ممكن فبدأ رحلة البحث عن مقبس في صالات المطار بينما انهمك “يحي” في إرسال أو استقبال مكالمات ورسائل المهنئين بالعودة المرتقبة بينما اختفى “منير” عن أنظاري فرأيت أن أصرف آخر دقائق لي مع من ترك كل شيء خلفه منذ أن تعرف علي وصار يكيّف كل برامجه مع ما يناسب لقاءاتنا؛ “صلوح” هذه الظاهرة الإنسانية التي سأتحدث بإسهاب عنها لاحقا..؛ عدت برفقة “صلوح” إلى الصالة الرئيسية للمغادرين دون أي هدف أو وجهة فالأهم هو أن نبقى معا إلى آخر لحظة يتحتم علينا حينها أن نفترق .
لما كنا في الطابور بلغنا خبر اتصال السفارة بالأخ “وليد” الذي أقصي من قائمة الإجلاء هو وزوجته وابنته ذات العامين بسبب أنه طالب مقيم وليس سائحا ولأنه لا يملك تذكرة العودة، قصة الأخ تحتاج إلى عدة صفحات فهي بحد ذاتها مسلسل معاناة وترقب، غضب ورجاء، أمل ويأس، فحين فقد أي بارقة أمل وبعد عدة اتصالات قام بها للسفارة دون أن يتلقى أي رد قرر أن يذهب صبيحة الإجلاء إلى أحد الشلالات في ضواحي العاصمة لعله ينسى وزوجته ضغط الترقب والانتظار وخيبة الأمل،
في تلك الأثناء كان موظف السفارة يحاول الاتصال ب “وليد” لكن دون جدوى لأنه كان خارج مجال التغطية ، وحين عاد لمنزله على السادسة مساء وصلته رسائل تفيد بأن رقما كان يحاول الاتصال به ثم تلقى اتصالا من نفس الرقم فاذا به موظف السفارة الذي قال له بان هناك فرصة للالتحاق بطائرة الاجلاء إن كان يرغب في ذلك ولكن ليس مضمونا 100% أنه سيذهب،
كان “وليد” لا يزال بلباس الرحلة وأواني الشواء والغداء على حالها ولم يجمع هو وزوجته أي غرض من أغراضه وحقائب السفر تقبع في زاويتها منذ وصولهم لماليزيا قبل سنتين على ما أظن!!!، ماذا يفعل أيجمع أغراضه ويحزم أمتعته على عجل لعله يدرك المطار الذي يبعد عنه ساعة من الزمن ويجرب حظه في الفوز بمقعدين غير مضمونين، ام يترك الأمر برمته ولا يكلف نفسه وزوجته تكاليف خيبة أكبر حين لا يجد مكانا لهما ضمن الرحلة فيعودا خائبين إلى بيتهما..؟؟!!!. موقف لا يحسد عليه طبعا ولا يتجرأ أحد على الإشارة عليه ونصحه فاحتمال النجاح والفشل متساويان تقريبا..، حسم “وليد” أمره وقرر المجازفة والقدوم إلى المطار فليس لديه ما يخسره عدا بعض المعنويات التي ستزداد انحدارا وبعض الدموع التي سيضطر لكفكفتها..
لما وصلت مع “صلوح” إلى شبابيك التسجيل كنت أُذكّره بحكاية المرأة التي التقيتها أمام السفارة وقلت له “أتمنى أن ألتقي بها وتبشرني بأنها نجحت في مسعاها..”، وبمجرد أن وصلنا لمكان التسجيل وبعد بحث خفيف وجدتها جالسة بجانب السكانير وأولادها يحومون حولها مثل طير منكوب فقد عشه أو قتل أحد أبنائه فهو حيران لا يرفع رأسه إلا ليطمئن على من تبقى حوله، اقتربت إليها ببطء حتى أعطيها فرصة لتراني وتتعرف علي دون أن أفاجئها بوقوفي فوق رأسها، رفعت وجهها ونظرت إلي باستغراب ولكن لم تتعرف علي للأسف وأنّى لها أن تعرفني في تلك الأجواء، ابتسمت لها حتى أكسر الجليد وقلت لها هل من بشرى سارة سيدتي؟!! وأنا أقول في نفسي “وهل كانت لتجلس تلك الجلسة الكئيبة لو أنها بشرت بالذهاب؟؟!!”، هزت رأسها وقالت لا ليس بعد “مازلنا نقارعو” فقلت لها أنا الشاب الذي التقينا أمام السفارة وقد اتصلوا بي صبيحة اليوم فقط وأظن أنه لا يزال هناك أماكن لكم مثلما أنهم اتصلوا بعائلة أخرى قبل قليل..، فالأمل موجود وبإذن الله ستركبون معنا فهزت رأسها وقالت أدع الله لي، ويعلم الله كم رجوت الله أن يجبر بخاطرها واولادها ويفرج عنها و يلحقهم بنا..
بعد جولة ثانية طويلة في الصالة كنا نتحدث فيها عن مواضيع لا أتذكرها ولكن بكل تأكيد “صلوح” يتذكرها وهذه من ميزاته الغريبة أنه يتذكر موضع وتاريخ كل موضوع تناقشناه معا رغم أنها عديدة جدا وفي أماكن مختلفة !! وازمنة متباعدة أحيانا، عدنا إلى موقع الشبابيك لنجد هذه المرة بأن صاحبنا “وليد” وزوجته وصغيرته قد وصلوا فعلا وهم مع الإجراءات الأخيرة لتسلُّم تذكرة الركوب بعد أن توسط له السفير والقنصل لدى الجهات المعنية – التي يعلم الله من هي !-
فرحنا لذلك كثيرا وكدنا نعانقه لولا أن التباعد الاجتماعي يمنع ذلك!، ثم لمحت حركة ونشاط خلفه فإذا بالمرأة البلعباسية وأولادها يجرون حقائبهم ويجمّعونها أمام موظفة التسجيل التي أنهكت وخارت قواها كيف لا وهي على تلك الحال منذ الخامسة عصرا إلى تلك الساعة التي تشير إلى الحادية عشرة، هكذا تجتمع البشائر وتتوالى الفرحة تلو الأخرى بعد أن كنا لا نسمع إلا كل محزن ومؤسف..، تقدمت منها وباركت لها وحمدت الله أن بلغها مناها ومناي لأني كنت أشعر بحرج عظيم فلم أستسغ فكرة ذهابي إلى عائلتي وبقاء عائلة بأكملها في ديار الغربة.
بقي ساعتان قبل الموعد الثاني الذي أعلنوه للإقلاع وهو الواحدة بعد منتصف الليل ولم يعد لنا متسع من الوقت حتى أمضيه إلى جوار “صلوح” ومع ذلك أصررت عليه إلا أن نجلس معا في زاوية بعيدة من المطار حتى نستعد للحظة الوداع ، تلك اللحظة – التي دون أن أشعر- أؤجلها الآن وأنا أكتب قصتي لأني أسترجع معك عزيزي القارئ -وأنا أكتب- كل الأحاسيس المتناقضة التي عشتها آنذاك، مثلما كنت أؤجلها في تلك الأثناء في المطار.. لذا سأحدثكم عن ذلك الفراق غدا حتى لا أفسد عليكم فرحة ضم عائلة تلك المرأة لرحلة الإجلاء وفرحة “وليد” كذلك وهو آخر من التحق بالرحلة.
#يُتبع.