هذه قصتي.. من ماليزيا إلى الجزائر في زمن الكورونا (2)

0

لم أنم تلك الليلة رغم أني كنت منهكا نفسيا بسبب الأخبار الأخيرة عن الإجلاء المفاجئ ومرهقا جسديا بسبب رحلة البارحة والسباحة ضد التيار في الشلال ..

بعد الفجر حاولت استجلاب النعاس وبصعوبة نمت لساعة ونصف تقريبا وما إن بدأت الشمس تضرب بقوة الجدران الزجاجية للشقة التي تقع في الطابق السابع والعشرين حتى استيقظت وبقيت متسمرا في مكاني، أبعدت اللحاف عن وجهي ولكن لم أقوى على إيقاف إعصار الأفكار في رأسي كنت كمن سافر ليلا في حافلة أو سيارة أجرة لمسافة بعيدة بعد يوم شاق من العمل، قاصدا مدينة لقضاء حاجة ملحة وعاجلة فيظل طوال سفره مشوش الذهن شاردا لا يكاد يجد حلا لإشكال في عقله حتى تداهمه فكرة اخرى فتمر الساعات والكيلومترات وهو لم يراوح مكانه ولم يهتد لحل لأي مشكلة اعترضت تفكيره طوال الطريق!!

كنت أنظر حولي فإذا بـ “صلوح” غارق في نومه كعادته لا يوقظه حتى سقوط مذنب او كوكب قرب مخدته هههه، و عمي “يحي” مستلقي على الأرض تحت نسمات المكيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال على إيقاع أهل الكهف.

متى سيكون اسمي في قائمة الإجلاء؟

بعد لحظات أحسست بهذا الاخير يتحرك فيبدو أنه استمع إلى أفكاري وأحب أن يستيقظ ويتضامن معي، أخذ هاتفه يقلبه ويقرأ آخر الأخبار فجاءه اتصال من صديق، كنت أستمع إلى حديثه دون اهتمام بالموضوع وأتكهن كلام صديقه في الجانب الآخر – رياضة فكرية أمارسها أحيانا عندما اضطر للاستماع لشخص بجواري يتحدث في الهاتف بأي لغة أفهمها -، ما إن انتهى من تلك المكالمة الواتسابية حتى اتصل بأخيه “محمد” او العكس لا أدري بالضبط، فانتبهت له وهو يقول “أيواه الحمد لله ها أحمد؟” ففهمت من خلال حديثه أن اسمه واسم الشيخ “ياسين” ضمن قائمة الإجلاء، وبعد أن سمع رد أخيه عن سؤاله همهم طويلا متحسرا ففهمت أنني غير معني بالإجلاء !.

تخيلوا فرحة عارمة – لصدور اسم عزيزين علي علقا لشهور هناك بعد أن كانت نيتهما زيارة سياحية لا تزيد عن ثلاثة أسابيع- وبعدها بثواني خيبة أمل مدوية لأن اسمي لم يرد في القائمة ومعنى ذلك أنني سأبدأ العد التنازلي لفراقي لهما، بعد أن ألفنا البقاء معا بل وانتقلت بإلحاح شديد منهما للإقامة معهما في نفس الشقة بعد خمسة شهور قضيتها وحدي في إقامتين مختلفتين Jelatek و Seri Maya، أجزاء من الثانية فصلت بين البشارة والخيبة كانت كفيلة لتزيد معاناتي وتشوشني أكثر، لم أفرح لهما كما ينبغي كما لم يسعدا ويحتفلا هما كما يستلزم الموقف بعد أشهر من الانتظار,

هذا المشهد المتناقض ذكرني بموقف من أشد المواقف ألما وحيرة وعذابا في حياتي، كان ذلك في سنة 2004 حين كنت أنتظر نتيجة شهادة الباكالوريا التي أعيدها للمرة الاولى بعد أن فشلت في العام الذي قبله، كنا خمسة زملاء لا نفترق إلا لنلتقي مجددا كانت مذاكرتنا جماعية إلى آخر لحظة قبل الاختبار، ومستوانا متقارب جدا فلم نظن للحظة أن أحدنا سيفشل في الاختبار، لكن شاء العلي القدير أن ينجح الأربعة ويفشل للمرة الثانية كاتب هذه الكلمات فلا أنا فرحت لهم بنجاحهم كما يلزم واحتفلت معهم ولا هم فرحوا به، فلم ندر أنبدأ بالفرح معا ثم نحزن معا أم ماذا نفعل!!

أحسست بأني أختنق في مكاني فقررت القيام من فراشي ولكن بطريقة توحي بأنني استيقظت للتو، فرحت كالعادة أغسل ما تبقى من أواني العشاء وحفلة عيد الميلاد!!، وهذه عادتي عندما أتوتر ولا أقوى على التركيز حيث أفضل ممارسة شيء عضلي لأنشغل قليلا ريثما تهدأ فورة النفس وتبرد نيران المشاعر.

بعد ذلك أعددت شاي الفطور وقبل أن يبادر أخي “يحي” بالخروج لشراء الخبز وبعض الحاجيات عاجلته بالقول أني أريد أن أنزل للشراء والمشي قليلا ريثما يحين وقت استيقاظ بقية الإخوة، وهذا هو الأسلوب الثاني لتخفيف التوتر وجمع شتات نفسيتي واسترجاع ما يمكن استرجاعه من رباطة الجأش – كما يسمونها ولا أذكر أنني رأيتها عندي من قبل!!-

سنة حلوة يا بابا

المشي يخفف عني كثيرا لكن مع عدم اصطحاب الهاتف أو الإبحار في ثنايا وسائل التواصل التي صارت تدك نفسياتنا دكا بما نجده من أخبار الوفيات والحوادث ، كان خطئي أني تفحصت الماسنجر فإذا بزوجتي الغالية حضرت لي مفاجأة غير التي كانت في الليلة السابقة من شراء الكعكة بالتنسيق مع أستاذها ومديرها -سابقا- الأستاذ “يحي”، هذه المرة أرسلت لي تسجيلا صوتيا لابني الحبيب “أبو بكر الصديق” وهو يردد خلفها “سنة حلوة يا بابا .. سنة حلوة يا بابا… سنة حلوة يا بابا” رددها عدة مرات وبصوت طفولي ملائكي دون أن يدري أنه في كل مرة يقول فيها “بابا” كان يغرز سكينا في قلبي ويشعل نار الشوق أكثر وأكثر…. انهرت باكيا ولم أستطع مغالبة دموعي التي طالما غالبتها وجمدتها حينما يكلمني وهو مسند رأسه لصدر أو حجر أمه أو مستلقيا على مخدتي .

كنت في فناء الإقامة حينما بكيت بمرارة مستذكرا أن هذا هو عيد ميلادي الرابع على التوالي الذي أقضيه بعيدا عن وطني وأهلي..، وأتذكر في ذات الوقت ما سمعته من خلو قائمة الإجلاء من اسمي وإمكانية أن يطول مكوثي هنا لأشهر أخرى… مرة أخرى تختلط المشاعر بين فرح بسماع صوت ابني وهو لا يزال يتعلم الكلام فيبهرني بترديده لتلك العبارات بشكل جميل، وبين مشاعر الإحباط من قرب موعد لقياي به وبمن أحب ..

بين يدي خبز الفطور وبقية اللوازم وأكيد أن الإخوة سيستيقظون بعد قليل، ما يعني أن علي بسرعة كفكفة دموعي ولملمة نفسي المنهارة – ولأول مرة بذلك الشكل المريع- وعليّ إخفاء مظاهر الحزن حتى لا أفسد فرحة الأخوين بقرب موعد عودتهما..، كلما هممت بالنهوض ومغادرة الفناء الذي أحسست أنه ما جعل إلا لأبكي فيه أنا بعيدا عن الأعين، إلا وعدت أنظر لصورة ولدي في الهاتف فتنهمر الدموع مجددا..

إجلاء مفاجئ.. واسمي غير موجود

بقيت على تلك الحال وأنا أفكر كيف لي أن أنقل ذلك الخبر لزوجتي وأمي بعد ساعات عندما يستيقظون في الجزائر، لم أتحمل غصة الخبر ولم أرد أن أتحمل ثقل هم سماع ردة الفعل لذا قررت أن أرسل تسجيلا صوتيا لزوجتي فيه تكليف ضمني بإخبار أمي بما حدث، حاولت استجماع قوتي حتى أنقل الخبر دون مشاعر ولكن اختنقت وفشلت في تبليغ الرسالة دون أن يظهر تأثري الشديد، وانا كذلك اتصل بي الأخ “يحي” لا ليسأل عن الخبز وما معه ولكن ليطمئن علي بعد أن تاخرت كثيرا…

عدت للشقة ولم أنتهي بعد من محو آثار ما كنت عليه، تفاديت النظر إلى عيون الإخوة و عاجلني أخي “يحي” بالسؤال عن أخبار الإجلاء فقلت له أعرف أنني غير معني به!! وقبل أن يسألني عن مصدر المعلومة بادرته بالقول أني كنت مستيقظا واستمعت لحواره مع أخيه، وضعت الأغراض ودخلت لإحدى الغرف الفارغة، تبعني “يحي” وأخذ يربت على كتفي ويعدني ببذل ما يمكن حتى يضاف إسمي للقائمة مطمئنا إياي بأنها ليست القائمة النهائية وبأن سعادة القنصل ابن ولايتنا وأكيد أنه سيجد لنا مخرجا…. كنت أهز رأسي ولا أكاد أصدق شيئا مما يقول، طلب مني أن أرسل للشيخ “ياسين” تذكرة السفر ليرسلها للقنصل على رقم الواتساب الخاص، حيث أن الإخوة بدؤوا جهود إلحاق اسمي بالقائمة بمجرد خروجي من الشقة…

لا أذكر بالضبط الحوار الذي دار بيننا ونحن نتناول الفطور، وأكيد أن تصنعي للهدوء وتقبل الموقف لم ينطلي على أحد ولكن تمنيت انتهاء الفطور بأقصى سرعة حتى أخرج مجددا من الشقة للتمشي..

كنت سابقا أخرج كثيرا رفقة “صلوح” الذي أعتبره هدية من الله لي خلال زيارتي لماليزيا وخاصة بعد انتهاء الإغلاق التام وحظر التجول جزئيا، خروجي معه كان يؤنسني لانه يهتم بأمور لم أعر لها بالا سابقا ولم انتبه لوجودها أصلا، فكنت رفقته أخرج من دائرة اهتماماتي الاعتيادية وبالتالي أبتعد قليلا عن اشكالاتي وأتجول معه في عالمه الخاص المختلف تماما عن عالمي، لكن هذه المرة كان منشغلا بعد الفطور بمتابعة محاضراته الجامعية عن بعد، فرأيت أن أخرج بمفردي من غير أن أحدد وجهة او هدف، والجميل أن الإخوة لم يعارضوا خروجي بل ولم يسألوا عن وجهتي أصلا، حتى قلت لهم وأنا أهم بالخروج سأتمشى قليلا لوحدي وربما سأذهب للسفارة!!!

عودة إلى السفارة في كوالالمبور

لم تكن السفارة بعيدة كثيرا عن إقامتي فضلا على أني أحب السير لمسافات طويلة في المدن التي أزورها لاول مرة حتى أختبر ذكائي الجغرافي الذي طالما نفعني ولم يخذلني إلا نادرا، بينما أنا أسير مررت بمقهى ستاربوكس Starbucks وبعد عدة خطوات قررت العودة لزيارة هذا الفرع الذي لطالما مررت من أمامه، دخلت المقهى وذهلت من حجمه الضخم الذي لا يظهر للمار من أمامه، أخذت قهوتي وانزويت في آخر القاعة وبقيت أتأمل الساعات ال 24 وعشرين الماضية وما عشته فيها من لحظات: رحلة؛ سباحة؛ شواء؛ لهو ومرح؛ طبيعة؛ صلاة في مسجد؛ قيلولة خفيفة على بساط المسجد؛ شاي قرب نهر؛ مشي ليلي؛ مفاجأة كعكة عيد الميلاد؛ أنباء الإجلاء؛ بشارة ذهاب “يحي” والشيخ “ياسين”؛ حرماني من الإجلاء؛ تسجيل ابني الصوتي…، مرة أخرى ضاقت نفسي فقررت حمل كأسي والخروج للشارع رغم هدوء المكان وجمال الديكور وروعة عبير القهوة التي يفوح بها المكان…

توجهت إلى السفارة برجل أقدمها وأخرى أؤخرها، طوال الطريق وأنا أتساءل هل حقا أحتاج أن ازور السفارة؟! هل سأجد من يجبر خاطري المكسور ولو بكلمة طيبة وأنا لي خبرة مع التفاوض في الإدارات الحكومية…؟! كنت أتساءل وفي ذات الوقت أحث الخطى حتى لا ينتصر #أحمد_العاطفي.

وصلت السفارة التي أقف أمامها لأول مرة فوجدت جمعا من الشباب متحلقين في مجموعات يتبادلون أطراف الأحاديث في مواضيع لا أظن أن أحدكم بحاجة لأخبره عنها !!!، اقتربت من مجموعة وسألت ما الجديد هل من قائمة احتياطية أو جديدة؟؟؟، تعرفت خلال وجودي هناك على حالات مشابهة لحالتي وأخرى أقل او أكثر تعقيدا..، لكن في تلك اللحظات العسيرة على الجميع تمنيت لو أجد من هو في حال أقسى من حالتي حتى أحمد الله على حالتي أنا!!!

تمنيت لو أن الله يريني من يعاني أكثر مني حتى يخف ألمي!!! فكان ما أردت، انزويت إلى جهة الباب الكبير في السفارة ومن الجهة الاخرى كانت إمرأة تجلس لوحدها على جزء من رصيف تسلي نفسها بهاتفها، سلمت عليها وبدأ بيننا حوار لم أعرف إلى الآن كيف بدأته حتى ينتهي إلى ما انتهى إليه فأعود منبسطا منشرحا حامدا شاكرا ربي !!!!

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This site is protected by wp-copyrightpro.com